مر نصف قرن على رحيل الشاعر العراقى الكبير وأحد مؤسسى مدرسة الشعر الحديث العربى بدر شاكر السياب، عشقت شعره الذى خلد العراق وتغنى به وقت أن كان هناك عراق، مما يجعلك كلما قرأته الآن تبكى حسرة على ما آل إليه من خراب ودمار وتشرذم، شعر «السياب» بالطبع له زوايا كثيرة للدراسة والنقد، ولكن أكثر ما جذبنى هو شعره عن مرضه العضال ربما لأننى طبيب ويهزنى إبداع الشاعر وهو يحكى عن تلك اللحظات التى تتفوق أحياناً على تشخيصات الأطباء الجافة الباردة، مات «السياب» بعد رحلة عذاب طويلة مع مرض غامض شخصه البعض على أنه من مضاعفات السل، ولكن أوصاف هذا المرض مثلما جاءت فى شعر السياب وذكريات أصدقائه، أقرب إلى المرض العصبى ALS الذى يصيب العضلات بالضمور ويسبب فى النهاية الشلل وصعوبة البلع ثم توقف التنفس، هذا تخمينى وليس تأكيدى، أبيات الشعر التى اخترتها من عدة قصائد كتبها «السياب» فى أخريات حياته حزينة متشائمة لكن فيها عذوبة وعذاب الفن، فيها ألم ونار التجربة الشخصية، فيها بكاء ونحيب ورهافة إحساس الشاعر المضبوط دوماً على بوصلة الشعر لا النظم، والتجديد لا التحنيط، تعالوا معاً ندخل إلى عالم «السياب» الساحر وغرفة مرضه التى تذكرنا بالغرفة رقم 8 لأمل دنقل التى كتب فيها ديوانه الأخير فى معهد السرطان، «السياب» الذى خلده شعره وخذله جسمه، يقول بدر شاكر السياب فى أولى صرخاته الشعرية: أنادى فتعوى ذئاب الصدى فى القفار «كسيحٌ كسيحٌ وما من مسيح ويقول أيضاً عن ابنه الطفل غيلان: يا سُلَّم الدم والزمان: من المياه إلى السماءِ غيلانُ يصعدُ فيه نحوى، من تراب أبى وجدى ويداه تلتمسان ثمَّ يدى وتحتضنان خدّى فأرى ابتدائى فى انتهائى. يا ظلّى الممتدَّ حين أموت، يا ميلاد عمرى من جديد. ويقول أيضاً عن جيكور المدينة التى ولد بها: لو يُومِض فى عِرْقى نورٌ فيضىء لىَ الدنيا! لو أنهض، لو أحيا! لو أسقى! آهٍ لو أسقى. جيكور ستولد من جرحى، من غصة موتى من نارى. جيكور ستولد.. لكنّى لن أخرج فيها من سجنى فى ليل الطين الممدودِ لن ينبض قلبى كاللحنِ فى الأوتار، لن يخفقَ فيه سوى الدودِ. لا شىءَ سوى العدم العدم، والموتُ هو الموتُ الباقى